فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعًا وطبعًا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة وهذه الأربعة أقرضتها ربي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت.
قيل: قبل الله دعاء الرسول فيه حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفًا، وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقًا من تمر الصدقة، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، وقال: آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر ربي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات.
فقال المنافقون على وجه الطعن ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة.
وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، والله غني عن صاعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والكلام في تفسير اللمز مضى عند قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} والمطوعون المتطوعون، والتطوع التنفل، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب، وسبب إدغام التاء في الطاء قرب المخرج.
قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المقل، قال الزجاج: {إِلاَّ جُهْدَهُمْ} وجهدهم بالضم والفتح.
قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم، وحكى ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال الجهد الطاقة.
تقول هذا جهدي أي طاقتي.
إذا عرفت هذا فالمراد بالمطوعين في الصدقات، أولئك الأغنياء الذين أتوا بالصدقات الكثيرة وبقوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} أبو عقيل حيث جاء بالصاع من التمر.
ثم حكى عن المنافقين أنهم يسخرون منهم، ثم بين أن الله تعالى سخر منهم.
واعلم أن إخراج المال لطلب مرضاة الله، قد يكون واجبًا كما في الزكوات وسائر الإنفاقات الواجبة وقد يكون نافلة، وهو المراد من هذه الآية، ثم الآتي بالصدقة النافلة قد يكون غنيًا فيأتي بالكثير، كعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.
وقد يكون فقيرًا فيأتي بالقليل وهو جهد المقل ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب، لأن المقصود من الأعمال الظاهرة كيفية النية واعتبار حال الدواعي والصوارف.
فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعًا عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به الغني.
ثم إن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة، وذلك التعيير يحتمل وجوهًا: الأول: أن يقولوا إنه لفقره محتاج إليه، فكيف يتصدق به؟ إلا أن هذا من موجبات الفضيلة، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وثانيها: أن يقولوا أي أثر لهذا القليل؟ وهذا أيضًا جهل، لأن هذا الرجل لما لم يقدر إلا عليه فإذا جاء به فقد بذل كل ما يقدر عليه فهو أعظم موقعًا عند الله من عمل غيره، لأنه قطع تعلق قلبه عما كان في يده من الدنيا، واكتفى بالتوكل على المولى.
وثالثها: أن يقولوا إن هذا الفقير إنما جاء بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس في هذا المنصب، وهذا أيضًا جهل، لأن سعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين، خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة.
وأما قوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} فقد عرفت القانون في هذا الباب.
وقال الأصم: المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها، فكان ذلك كالسخرية. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين} يعني: يطعنون ويعيبون {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك، حثَّ الناس على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وزن كل درهم مثقالًا، فقال النبي: صلى الله عليه وسلم: «أَكْثَرْتَ هَلْ تَرَكْتَ لأهْلِكَ شَيْئًا» فقال: يا رسول الله، كان مالي ثمانية آلاف درهم فأما أربعة آلاف درهم فأقرضتها ربي عز وجل، وأما أربعة آلاف فأمسكتها لنفسي.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَارَكَ الله لك فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَفِيمَا أمْسَكْتَ».
فبارك الله فيه، حتى إنّه بلغ ماله حين مات أنه طلق إحدى نسائه الثلاث في مرضه، فصالحوها عن ثلث الثمن لها بثمانين ألف درهم ونيف.
وفي رواية أُخرى ثمانين ألف دينار ونيف.
وجاء عاصم بن عدي بسبعين وسقًا من تمر، وكل واحد منهم جاء بمقدار طاقته، حتى جاء أبو عقيل بن قيس بصاع من تمر وقال: آجرت نفسي الليلة بصاعين، فصاع أقرضته لربي، وصاع تركته لأهلي فأمره بأن ينثره في الصدقة.
وروي أن امرأة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ واحدة، فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها فنزل: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إلى آخره.
وكان نفر من المنافقين جلوسًا يستهزئون فقالوا: لقد تصدق عبد الرحمن وعاصم بن عدي على الرَّب، فلقد كان الله غنيًا عن صاع أبي عقيل، فنزل: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: يطعنون المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم وهم عبد الرحمن وعاصم وغيرهما.
{وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}، قال أهل اللغة: الجُهْدُ بالضم الطاقة، والجَهْدُ بالفتح المشقة.
وقال الشعبي: الجُهْدُ هو العسرة يعني: القلة، والجَهْد بالنصب هو الجَهْدُ في العمل.
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}، يقول يستهزئون بهم.
{سَخِرَ الله مِنْهُمْ}، يعني: يجازيهم جزاء سخريتهم.
وهذا كقوله: {الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، يعني: وجيع دائم، فلما نزلت هذه الآية، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله استغفر لنا فنزل: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}. اهـ.

.قال الثعلبي:

{الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
قال أهل التفسير: حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف فجئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، فأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت».
فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى مات وعنده امرأتين يوم مات فبلغ ثمن مالهما مائة وستون ألف درهم لكل واحدة منهما ثمانون ألفًا، وتصدّق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وستين وسقًا من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحباب بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بتُ ليلتي أجرّ بالجرير أحبلا حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فلمزهم المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاّ رياء، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحبَّ أن يزكي نفسه ليعطي الصدقة فأنزل الله عزّ وجلّ: {الذين يَلْمِزُونَ} أي يعيبون ويغتابون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات.
وقال النضر بن شميل: هو الطيب نفسه في الصدقة يعني عبد الرحمن وعاصم.
{وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} طاقتهم يعني أبا عقيل. قرأ عطاء والأعرج: جهدهم بفتح الجيم، وهما لغتان مثل الجهد والجهيد، والضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة أهل نجد.
وكان الشعبي يفرق بينهما فيقول الجُهد: في العمل والجَهد في القوة، وقال القتيبي في الجُهد: الطاقة والجَهد المشقة {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} أو جازاهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
روى ابن عليّة عن الحريري عن أبي العليل قال: وقف على الحجر رجل فقال: حدثني أبي أو عمّي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من يصّدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة».
قال: وعليَّ عمامة لي فنزعت منها لوثًا أو لوثين لأتصدق بها ثم أدركني بما يدرك ابن آدم فعصّبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قامة ولا أشدّ سواد ولا أَدم منه يقود ناقة لم أرَ بالبقيع ناقة أحسن ولا أجمل منها. فقال: هي وما في بطنها صدقة يا رسول الله، فألقى إليه بخطامها قال: فلمزه رجل جالس فقال: والله لِمَ يتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «بل هو خير منك ومنها»، يقول ذلك مليًا فأنزل الله عزّوجل هذه الآية. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمزُونَ الْمُطَّوِّعينَ مِنَ الْمُؤْمِنِيَن فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}
قرئ بضم الجيم وفتحها وفيه وجهان:
أحدهما: أنهما يختلف لفظهما ويتفق معناهما، قاله البصريون.
والثاني: أن معناهما مختلف، فالجهد بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة، قاله بعض الكوفيين.
وقيل: كان ذلك في غزاة تبوك نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي وأبي عقيل الأراشي وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ليتجهز للجهاد، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال هذا شطر مالي صدقة، وجاء عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال: إني آجرت نفسي بصاعين فذهبت بأحدهما إلى عيالي وجئت بالآخر صدقة، فقال قوم من المنافقين حضروه: أما عبد الرحمن وعاصم فما أعطيا إلا رياءً، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه، فنزلت فيهم هذه الآية.
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم أظهروا حمدهم واستبطنوا ذمهم.
والثاني: أنهم نسبوا إلى الرياء وأعلنوا الاستهزاء.
{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه ما أوجبه عليهم من جزاء الساخرين.
والثاني: بما أمهلهم من المؤاخذة.
قال ابن عباس: وكان هذا في الخروج إلى غزاة تبوك. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {الذين يلمزون}
رد على الضمائر في قول: {يكذبون} [التوبة: 77] و{ألم يعلموا} [التوبة: 87] و{سرهم ونجواهم} [التوبة: 78] و{يلمزون} معناه ينالون بألسنتهم، وقرأ السبعة {يلمِزون} بكسر الميم، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه {يلمُزون} بضم الميم، و{المطوعين} لفظة عموم في كل متصدق، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله، عطفًا على {المطوعين}، {والذين لا يجدون}، ولو كان {الذين لا يجدون} قد دخلوا في {المطوعين} لما ساغ عطف الشيء على نفسه، وهذا قول أبي علي الفارسي في قوله عز وجل: {من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل} [البقرة: 98] فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين.
وكذلك قال في قوله: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن: 68] وفي هذا كله نظر، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها، وأصل {المطوعين} المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم، وأما المتصدق بكثير الذي كان سببًا للآية فأكثر الروايات أنه عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت».
وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي، تصدق بصاع من تمر وقال يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة.
فقال المنافقون: الله غني عن صدقة هذا، وقال بعضهم: إن الله غني عن صاع أبي عقيل، وقيل: إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صى الله عليه وسلم، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة، وقيل أقل من هذا.
فقال المنافقون: ما هذا إلا رياء، فنزلت الآية في هذا كله، وقوله: {فيسخرون} معناه يستهزئون ويستخفون، وهو معطوف على {يلمزون}، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله: {والذين لا يجدون}، وهذا لا يلزم، لأن قوله: {والذين} معمول للذي عمل في {المطوعين} فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيدًا وعمرًا فقتلهما، وقوله: {سخر الله منهم} تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم، وقوله: {ولهم عذاب أليم} معناه مؤلم، وهي آية وعيد محض، وقرأ جمهور {جُهدهم} بضم الجيم، وقرأ الأعرج وجماعة معه {جَهدهم} بالفتح، وقيل هما بمعنى واحد، وقاله أبو عبيدة، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم، ونحوه عن الشعبي، وقوله: {الذين يلمزون} يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين، ويصح أن يكون ابتداء وخبره {سخر}، وفي {سخر} معنى الدعاء عليهم.
ويحتمل أن يكون خبرًا مجردًا عن الدعاء، ويحتمل أن يكون {الذين} صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة. اهـ.